حكم المشاركة في القوافل البحرية لكسر حصار غزة !
د. باسم عامر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، وبعد،،،
فهذه الكلمات ليست فتوى شرعية يُؤخذ بمقتضاها – لأنَّ صاحبَها ليس من أهل الفتوى - ( ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه )، إنما هي محاولة لاستنهاض همم العلماء وطلاب العلم من أجل إصدار فتاوى شرعية معتمدة بخصوص الموضوع، وقبل ذلك أذكر أموراً:
أولاً: لا يخفى على عاقل ما أحدثته القافلة البحرية الأخيرة ( قافلة الحرية ) من ردود فعل على المستوى العالمي تجاه القضية الفلسطينية وخصوصاً قضية غزة المحاصرة، حيث كانت الأصداء إيجابية وفي صالح القضية الفلسطينية، بل يمكن القول بأنه قد انعقد الإجماع الدولي على وجوب رفع الحصار الظالم على أهل غزة، إلى درجة أن بعض المشاركين في الحصار على غزة ومنهم محمود عباس طالب برفع الحصار !!!
عموماً يمكن القول بأن القافلة البحرية الأخيرة (قافلة الحرية) قد حققت مكاسب لصالح القضية، منها ما يلي:
- ازدياد السخط العالمي الرسمي والشعبي ضد الكيان الإسرائيلي وأذنابه، وَتَمثَّل ذلك في المظاهرات العالمية المنددة في معظم عواصم العالم.
- انكشاف الحقيقة الهمجية الوحشية العنصرية الصهيونية بالصوت والصورة على معظم الفضائيات العالمية، بحيث أصبحت كراهية هذا الكيان في أعماق الضمير الإنساني.
- سحب واستدعاء سفراء الكيان الإسرائيلي في دول عديدة، منها: تركيا، اليونان، إسبانيا، السويد، النرويج، وغيرها من دول العالم.
- استبشار المسلمين بتصاعد الدور التركي تجاه قضية فلسطين، لا سيما في الذكاء المرحلي التصاعدي لرجب طيب أردوغان الذي شبَّهته جبهة علماء الأزهر بعمر بن الخطاب رضي الله عنه.
- بداية انكسار الكبرياء الإسرائيلي، ويظهر ذلك جلياً في عَزْم " النتن ياهو " رئيس وزراء الكيان بتخفيف الحصار عن غزة.
هذه بعض المكاسب المتحققة من خلال القوافل البحرية، ولا أظن بأنه يوجد عاقل فضلاً عن مسلم ينكرها، فإذن ينبغي وضعها في الحسبان عند البحث عن الحكم الشرعي في المسألة، لأنَّ ذلك يُعَدُّ جزءاً من صورة المسألة، حيث إنَّ الحُكْمَ عَلَى الشَّيْءِ فَرْعٌ عَنْ تَصَوُّرِهِ كما يقرِّره الأصوليون.
ثانياً: ثمَّ إنه مما هو معلوم في الدين بالضرورة أن نصرة المسلم للمسلم واجبة بكل وسيلة مباحة مستطاعة، وَيَعظُم الوجوب إذا أضيف إليها نصرة المقدسات الإسلامية، وفي مسألتنا فإنَّ النصرة الواجبة هنا ليست لمسلمٍ واحدٍ فقط بل لشعبٍ بأكملِه وهم أهل غزة المحاصرون، والمقدَّس الإسلامي ليس أيَّ مقدَّس بل هو المسجد الأقصى قبلة النبي عليه الصلاة والسلام شَطْرَ بعثته، وبالتالي لا خلاف في وجوب نصرة هذه القضية وجوباً شرعياً متأكداً.
ثالثاً: من الوسائل المشروعة لنصرة هذه القضية الإنفاق المالي والدعاء والكلمة والمواقف الإيجابية، والواجبُ عدمُ توقفِها واستمرارُها - على الرغم من صعوبتها وخصوصاً الدعم المالي - لكي يستمر صمود أهل الغزة المرابطين.
رابعا: استجَدتْ منذ أشهر فكرة الأساطيل البحرية باتجاه غزة، حيث إنَّ غزة تطل على البحر الأبيض المتوسط، ويمكن من خلال المياه الدولية الوصول إليها، وهذا ما تقوم به القوافل البحرية لا سيما قافلة الحرية الأخيرة والتي وقع عليها الاعتداء، ويمكن لأيِّ شخصٍ متطوعٍ الالتحاق بتلك القوافل من خلال المنظمات الأهلية القائمة عليها.
فما الحكم الشرعي في الالتحاق بتلك القوافل البحرية ؟
يمكن التماس الحكم الشرعي في هذه المسألة من خلال ما يلي:
- سبق الحديث بأنَّ النصرةَ واجبةٌ شرعاً بأي وسيلة مباحة مُستطاعَة، والمسلمون في غزة يستنصرونا، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال:72]، وهذه القوافل لا تعدو كونها وسيلة من الوسائل المباحة، وفي الوقت ذاته فهي في دائرة المستطاع، ومن المقرَّر شرعاً أن الوسائل لها حكم المقاصد، فإذا كان المقصد - وهو نصرة المسلمين المظلومين - مطلوباً فإنَّ الوسيلة المباحة تكون مطلوبةً شرعاً.
- فإذا قال قائل: بأنَّ المصلحة وراء هذه الوسيلة غير متحققة أو وهمية، فالجواب عليه باختصار: أنَّ تداعيات قافلة الحرية الأخيرة ترد عليه، والمصالح كثيرة ومتعددة لمن فتح الله بصيرته وأنار قلبه.
- وإذا قال قائلٌ آخَر: إنَّ هذه الوسيلة قد تؤدي إلى إلقاء الأنفس إلى التهلكة، فالجواب: أنَّ الوصف الشرعي الصحيح لهذا العمل - أي المشاركة في القوافل والذهاب إلى غزة - أنه جهادٌ في سبيل الله، والجهاد في الإسلام لا يخلو من خسائر بشرية ومالية، وأما الفهم المغلوط لقوله عزَّ وجلَّ: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة:195] يردُّه ترجمان القرآن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما – بقوله: " ليس التهلكة أن يُقتَل الرجل في سبيل الله، ولكن الإمساك عن النفقة في سبيل الله " (يُنظر تفسير الطبري في تفسير الآية).
- وإذا قال ثالثٌ: موافقة ولي الأمر ؟ فالجواب: أنَّ هذا الموضوعَ مسكوتٌ عنه في معظم الأقطار فلا يُسأل عنه، فضلاً عن أن مسألة غزة وفلسطين بأكملها تندرج في جهاد الدفع، حيث إن العدوَّ جاثمٌ على صدر الأمة الإسلامية ويحتاج إلى دفعٍ وصد، فلا يُشترَط له الإذن، قال ابن تيمية: " وأما قتال الدفع فهو أشدُّ أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين, فواجب إجماعاً, فالعدوُّ الصائلُ الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه, فلا يُشترَط له شرط, بل يدفع بحسب الإمكان, وقد نصَّ على ذلك العلماء أصحابنا وغيرهم, فيجب التفريق بين دفع الصائل الظالم الكافر وبين طلبه في بلاده " ( الفتاوى الكبرى لابن تيمية )، والقوافل البحرية ضَرْبٌ من الجهاد كما سبق، وإن لم يُقصَد بها القتال ابتداءً، لكن في نهاية الأمر هذه القوافل دعمٌ للمقاتلين في سبيل الله تعالى فتجري عليهم أحكامهم.
- إذن من خلال المناقشة السابقة يتبين أنَّ حكم المشاركة في تلك القوافل البحرية لا ينزل عن مرتبة فَرْضِ الكِفايَة ( أي: إذا قام به بعض المسلمين سقط الإثم عن الآخرين )، ولا مكان للاستحباب في هذه المسألة، لأنَّ نصرة المسلمين بعضهم لبعض واجبة شرعاً كما سبق، ولا وسيلة للنصرة الفاعلة إلا بمثل هذا المخرَج.
- ولعل الوجوب يسقط أيضاً بتجهيز تلك القوافل بالدعم المالي خصوصاً لأصحاب الأعذار وغير القادرين.
والله أعلم، وأسأل الله أن يوفق العلماء إلى تجليةِ ما فيه عزُ الإسلام والمسلمين، وصلِ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
د. باسم عامر
عضو هيئة تدريس بجامعة البحرين
BASEMAAMER@HOTMAIL.COM